📁 آخر الأخبار

تجربتي في السفر مع الأطفال: من الفوضى إلى الذكريات الجميلة

تجربتي في السفر مع الأطفال من الفوضى إلى الذكريات الجميلة

تجربتي في السفر مع الأطفال: من الفوضى إلى الذكريات الجميلة

كان السفر بالنسبة لي في الماضي أشبه بقصيدةٍ هادئة، تكتبها الرياح على صفحات البحر عند الغروب. كنت أراه لحظة هروب ناعمة من صخب الأيام، وكان يشبه فنجان قهوة يتكئ على حافة نافذة صباحية، لا يعكّره شيء سوى رغبة خفية في التمدد أكثر بين أحضان المدن الغريبة. كنت أظن أن السفر سهل، أن الحقيبة تُحزم، والقدم تخطو، والطائرة تُحلق، ولا شيء يعكر ذلك السكون الوجودي العذب.

لكن حين أصبحت أمًا، تغيّر كل شيء. لم يعد السفر لحظة فرار، بل تحوّل إلى ساحة معركة صغيرة، تنشب فيها المواجهات بين الحفاظات المبللة والدمى المفقودة، بين نوبات الغضب ومطالب الوجبات، بين التعب وساعات الانتظار. ومع ذلك، وسط هذا الزخم، وُلد شيء جديد، شيء أكثر عمقًا ودفئًا: الذكريات التي لا تموت.


بدأت القصة في أحد صباحات الصيف، حين قررنا – أنا وزوجي – أن نخوض مغامرة السفر برفقة طفلينا. بدا القرار في حينه شجاعًا، وربما ساذجًا. نظرت إلى المنزل الذي بدأ يغلي بالحقائب والكتب والألعاب والوجبات الخفيفة، وقلت لنفسي: "ما الذي قد يحدث؟ إنها فقط رحلة قصيرة!" ولكن لم أكن أعلم أن تلك الساعات القليلة ستصنع في قلبي فصولًا من الحكايات التي لن تنتهي.

في اللحظات الأولى، كنت أركض بين الغرف، أجمع الأشياء كما تجمع الأم صبرها حين يتداعى، بينما كان صوت بكاء صغيري يعلو في الخلفية كمعزوفة لا يمكن كتمها. وفي الزاوية، كانت طفلتي تتأمل حقيبتها الصغيرة التي زينتها بملصقاتها المفضلة، تسألني عشرات الأسئلة عن الطائرة، والغيوم، وهل سنأكل في السماء؟ كنت أبتسم رغم التعب، وأدركت حينها أن هذا السفر ليس فقط انتقالًا من مكان إلى آخر، بل هو انتقال من دور إلى آخر: من مسافرة هادئة إلى قائدة لرحلة مجنونة محكومة بالمفاجآت.


في المطار، كانت الفوضى تشبه عاصفة رملية. الاصطفاف الطويل، نظرات الركاب، فوضى الأوراق، ونظرة رجل الأمن الذي لا يعرف إن كان عليه أن يبتسم لي أم يعجل مروري. ووسط كل هذا، قرر طفلي أن يتذمر من حذائه، وأنه يريد الحذاء الأزرق، لا هذا الأحمر الذي "يخنق أصابعه". حاولت تهدئته، وفي يدي الأخرى كنت أُخرج جوازات السفر، بينما طفلتي كانت تسألني إن كان الطيار سيشاهد أفلام الكرتون مثلها أثناء القيادة.

وعلى متن الطائرة، دخلنا فصلًا جديدًا من المسرحية. المقاعد لم تعجبهم، حزام الأمان كان كائنًا عدائيًا بالنسبة لطفلي، وضغط الأذن عند الإقلاع كان سببًا لنوبة بكاء عارمة. نظرت من النافذة إلى الغيوم التي تتراقص كعروس في فستان زفاف، وسألت نفسي: هل هذا هو السفر الذي كنت أشتاق إليه؟ هل فقد سحره في زحمة المسؤوليات؟

لكن، ومع الوقت، بدأ السحر في الظهور من أماكن غير متوقعة.

طفلتي نامت على كتفي بهدوء لم أره منذ شهور، وصغيري بدأ يحدّق من النافذة بدهشة بريئة كأنه يرى السماء لأول مرة. في تلك اللحظة، شعرت أن الدنيا توقفت قليلًا، لتمنحني فرصة أن أتنفس، أن أتأمل، أن أحب من جديد.


حين وصلنا إلى وجهتنا، بدت المدينة كأنها تفتح ذراعيها لنا. الشوارع تلمع من المطر، الهواء ناعم كقطعة قطن، والناس يبتسمون للغرباء كأنهم يعرفونهم منذ زمن. الأطفال يركضون بحرية، يلاحقون الفراشات، ويصرخون ضاحكين عند كل شيء جديد. مشيت معهم وأنا أراقب انعكاس وجوههم الصغيرة على زجاج المحلات، وقلت لنفسي: لولا تلك الفوضى، لما كنت الآن هنا، أعيش هذه اللحظة.

جلسنا ذات مساء في حديقة عامة، وكان ضوء الغروب ينسكب بلطف على وجوهنا. طفلتي كانت تلوّن دفترها، وصغيري كان يأكل البسكويت بسعادة لا توصَف. هناك، في تلك اللحظة، أدركت شيئًا مهمًا: أن الذكريات لا تُصنع في الفنادق الفخمة، ولا في المطاعم الراقية، بل تُصنع في التفاصيل، في العثرات، في الضحكات العفوية، في نظرة أمّ مرهقة ولكنها ممتنة.


عدنا إلى الوطن، وقلوبنا ممتلئة. عدنا أكثر قربًا، أكثر فهمًا لبعضنا البعض. تعلّمت أنا أن أُخفض سقف التوقعات، أن أحتفل بالإنجازات الصغيرة، كأن نصل إلى بوابة الطائرة دون بكاء، أو أن ينتهي العشاء دون معركة على الكرسي المفضل. وتعلّم أطفالي أن العالم أكبر من شاشة التلفاز، وأن هناك متسعًا للدهشة في كل شارع جديد.

تلك التجربة، التي بدأت بالفوضى والتعب والقلق، انتهت بمجموعة من اللحظات التي تُحفر في الذاكرة كالنقش على الحجر. لم تكن رحلة سياحية بقدر ما كانت رحلة إنسانية، عميقة، صادقة، حقيقية.

أفضل الجزر السياحية في العالم لمحبي العزلة والاسترخاء

واليوم، حين يسألني أحدهم: "هل تسافرين مع الأطفال مجددًا؟ أبتسم وأقول: بالطبع، فقد تعلّمت أن الفوضى ليست نقيض الجمال، بل قد تكون أحيانًا طريقه الوحيد.

يوسف أشرف
يوسف أشرف
يوسف أشرف – كاتب ومحرر متخصص في أدب الرحلات والسياحة العالمية، جمع بين شغف الترحال وسحر الكلمة، ليأخذ القارئ في جولات بين جبال الأنديز، وأزقة روما، وأسواق مراكش، دون أن يغادر مكانه. بدأ يوسف مسيرته منذ أكثر من 8 سنوات في مجال الكتابة السياحية، حيث طاف عشرات المدن، ودوّن تجاربه وأحاسيسه بلغة تنبض بالحياة، تتداخل فيها رائحة القهوة التركية مع نسيم بحر الباهاما.
تعليقات